mercredi 27 septembre 2017

ضرورة إحياء التراث المغربي والأندلسي

بقلم: الدكتور حمزة بن علي الكتاني:

مر في الأمة الإسلامية أعلام بعد السلف الصالح كانوا أمة لوحدهم، درسوا، وألفوا، وقضوا، وجاهدوا، وألفوا منهاجا فقهيا ودينيا كاملا، بحيث كانت لهم مدرسة متكاملة الجوانب؛ عقيدة وتفسيرا وأصولا وفقها وتصوفا، وتربية ودعوة إلى الله تعالى...بحيث لولا تصريحهم بانتمائهم لمذهب من المذاهب؛ لصح أن يعتبر لكل واحد منهم مذهب مستقل...

وقد عرف في المشرق أعلام على هذه الشاكلة، يعتبرون روادا في الفقه الإسلامي، والفكر والفلسفة الشرعية؛ كأمثال ابن تيمية وابن القيم، وابن قدامة، والسيوطي وأمثالهم...اعتنى المشارقة بنشر كتبهم وعلومهم، والتعريف بهم وبجهودهم من أجل خدمة الإسلام والمسلمين، وبلورة منهجهم التربوي والعلمي، بمختلف مناهجه ومداه وأبعاده...

كما برز في المغرب الإسلامي أعلام كذلك؛ موسوعيون، كتبوا والفوا، ودعوا إلى الله تعالى، وقضوا وشاوروا وجاهدوا في سبيل الله تعالى، ورحلوا وطافوا الدنيا في الجملة، واتسمت مؤلفاتهم بالإحاطة والموسوعية، بحيث يعتبر كل واحد منهم مدرسة متكاملة؛ كبقي بن مخلد، وابن حزم، والقاضي عياض، وعلي ابن القطان، وعمر ابن الزهراء، وأبي بكر ابن العربي المعافري...

غير أن هؤلاء الأعلام لم يحظوا بالعناية بنشر كتبهم والتعريف بها، وما اعتني به منها لم يحظ بالتحقيق المناسب، والدراسات الموسوعية، والدعاية العلمية بالقدر الذي حظي به إخوانهم من المشارقة، فجل هؤلاء ألفوا في التفسير والأصول والكلام والفقه بمختلف اختصاصاته، والدعوة إلى الله تعالى والتربية والتصوف...الخ، ولكن مناهجهم ومدارسهم لازالت تحتاج إلى الكثير من التعريف...ومن أهم أسباب ضعف الدراسات حول هؤلاء الأعلام أن جلها مشرقية، ومعتمدة على مصادر مشرقية، على أن كتابة المغربي في تراثه والتعريف به لن تكون أبدا ككتابة المشرقي؛ ضرورة أنه ابن المنطقة ومحيط بفلسفتها ومصادرها ومنابعها المعرفية أكثر من غيره...

وقد كنت تخصصت منذ نحو عشرين سنة وأكثر في تراث عائلة من العائلات العلمية، التي اتسم العديد من أعلامها بالموسوعية والتفرد والتفنن، والإتيان بالجديد المفيد؛ وهي: العائلة الكتانية، فقمت بنشر الكثير من تراثها والتعريف به، والدعوة إلى العناية به، وكتابة واستكتاب دراسات حوله، وكان ذلك في فترة التسعينيات من القرن الميلادي الماضي، في وقت كانت العناية بالتحقيق ونشر التراث والبحث العلمي فيه في بلادنا ضعيفة جدا، بل شبه منعدمة...

غير أنه بعد دخول الألفية الثالثة برز مجموعة من الشباب الباحثين، المتخصصين، الذين اعتنوا بالبحث العلمي ونشر التراث، فأنتجوا وكتبوا ونشروا، ثم ازدادت العناية مع منشورات وزارة الأوقاف المغربية - التي لا ينكر أحد سبقها لهذا الميدان منذ فجر الاستقلال - والرابطة المحمدية للعلماء بمختلف مراكزها المتشعبة في المغرب، ما جعل التراث المغربي يخرج ويعرف به بطريقة لم يشهدها المغرب من قبل، وكثر الباحثون المعتنون بنشر التراث، المتخصصون والمبدعون، وانتشرت كتبهم مشرقا ومغربا..زد على ذلك شغف المطابع ودور النشر المشرقية بنشر هذا التراث والتعريف به، نظرا لجدة مواضيعه، ومناهجه، ومصادره وموارده، بحيث أصبح الباحث المشرقي يجد قضايا جديدة، وأساليب مستجدة ومصادر لم يكن يسمع بها من قبل، في مختلف مصادر المعرفة، الأمر الذي من شأنه التأثير المباشر في قضايا البحث العلمي والشرعي والثقافي والتاريخي في العالم الإسلامي...

وكان لدار الحديث الكتانية، وراعييها: الأستاذ خالد السباعي والأستاذ محمد الشعار، دور مهم في نشر التراث المغربي والأندلسي على حد سواء، سواء المخطوط والمطبوع، بتبنيها منهج وقضايا واهتمامات حافظ المغرب وإمامه الشيخ عبد الحي بن عبد الكبير الكتاني رحمه الله تعالى، فأدخلت إلى عالم المعرفة، في المغرب خصوصا، أنماطا من البحث والتراث لم تكن معهودة من قبل؛ خصوصا ما يتعلق بتصوير المخطوطات النادرة وإعادة نشرها بخطوطها التي كتبها أصحابها؛ فنجد مجموع البوصيري، ورسالة ابن أبي زيد، ومسند الدارمي مصورة بأعتق نسخها، وبخطوط أكبر الحفاظ وأوثقهم؛ وهو الأمر الذي يعتبر دعاية هامة للكتاب والمكتبة المغربية، ودعوة للعناية بها والاستفادة من ذخائرها...

ومن ضمن الأعلام الذين حظوا بالتعريف بهم، ونشر تراثهم، وقامت دار الحديث الكتانية مشكورة بذلك: القاضي أبو بكر محمد بن عبد الله المعافري الأندلسي الإشبيلي ثم الفاسي وفاة وإقبارا؛ فقد نشرت - ومازالت تنشر - كتبه ومؤلفاته التي لم تكن نشرت من قبل، وجل الباحثين لم يطلعوا عليها، بل بعضها لم توجد له - بحسب البحث العلمي الراهن - سوى نسختين في العالم؛ كـ: "المتوسط في الاعتقاد والرد على أهل الزيغ والإلحاد"...فقد اعتمد فيه محققه الدكتور عبد الله التوراتي نسختين؛ إحداهما ناقصة، والأخرى تامة وعليها خط المؤلف القاضي أبي بكر ابن العربي رحمه الله تعالى...

ولا بد أن أنوه إلى أن "دار الحديث الكتانية" في عنايتها بنشر تراث هذا الإمام الكبير؛ وضعت تراثه بين يدين أمينتين، وعند باحث متخصص مثابر يقظ؛ هو الدكتور عبد الله التوراتي، المتخصص في الحديث النبوي، والباحث في التراث الأندلسي القديم، فخدم هذا التراث خدمة من طب لمن حب، وأصدر ثلاثة عناوين: "الأمد الأقصى في تفسير أسماء الله الحسنى"؛ طبع في مجلدين بالتعاون مع الدكتور أحمد عروبي، و"المتوسط في الاعتقاد"؛ في مجلد نفيس، وقريبا يصدر له: "سراج المريدين" في ستة مجلدات...وهذه الكتب كلها لم تكن نشرت من قبل، ولم يطلع عليها الأغلبية الساحقة من الباحثين والعلماء المتأخرين، وكثير من المتقدمين...

وقد اعتنى الدكتور التوراتي بمقابلة هذه الكتب على أصولها، وضبط نصوصها، وعزو آياتها، وتخريج أحاديثها، بل والرجوع إلى المصادر الأولى التي بنى عليها القاضي كتبه، وكثير من هذه الأصول فريد لا يوجد له في الدنيا سوى نسخة أو نسختين، فاستطاع بتوفيق الله تعالى، ثم إعانة قيمي الدار الوقوف عليها والإفادة منها، وتوضيح بناء نص المؤلف عليها سواء عزا أو لم يعز...

كما صدر هذه الكتب بدراسات واسعة، تبين قيمة الكتاب، وتضعه ضمن المنظومة المعرفية للمؤلف؛ فالقاضي أبو بكر ابن العربي كتب موسوعات شاملة، على منهج متكامل: كلاما وأصولا وتفسيرا وفقها وتربية وسلوكا، بحيث يعتبر صاحب مذهب ومدرسة متكاملة الأركان، فوضع المحقق تلك الكتب في مجالها المعرفي الذي شاءه لها المؤلف رحمه الله تعالى...

وكتاب "المتوسط في الاعتقاد"؛ هو كتاب فريد في بابه، تطرق فيه القاضي أبو بكر ابن العربي لجل أبواب العقيدة، تأصيلا، وتعريفا، وتحريرا، ومناقشة واستدلالا، وقد اعتمد في استدلالاته على أصول المتكلمين الأشاعرة، وكذا على مناهج أهل الحديث، فهو يدلل لكل أصل، ويعرف بمستنبطه من أين جاء، وينافح عنه من الكتاب والسنة، ويستخرج المفهوم العقلي الذي نتج عن تلك البنية المعرفية، وهو أسلوب بارع نتج عن خبرة القاضي بعلوم الكلام وعلوم السنة، التي تخضرم في دراستها بين المشرق والمغرب أثناء رحلته الواسعة للعراق والشام والحجاز ومصر والمغرب، ويحل الكثير من الإشكالات التي وضعها المنكرون على السادة الأشاعرة من جهة، ويقرب بين مدرستي الرأي والسمع من جهة أخرى...كما يرد على مختلف المدارس المبتدعة بالعلم والنظر والاستدلال، وبيان وجه فساد القول وبطلانه...

وقد صدر محقق الكتاب - كعادته - هذا الكتاب بمقدمة واسعة، استنبط فيها منهج المؤلف، ومصادره، وأثر كتابه، وأهم قضاياه وأبحاثه ومنهجه، ومن أفاد منه قديما وحديثا، كما استعرض ترجمة للمؤلف اعتنى فيها بإيراد ما لم ينشر من المصادر النادرة حوله، فجاء الكتاب بالجديد، وأفاد القاريء والباحث، وإنصافا للقول؛ فإن الدكتور التوراتي بهذه المادة الثرية التي أنتجها يعتبر باحثا متخصصا في القاضي أبي بكر ابن العربي، جاء بالجديد، وناقش من مضى، واطلع على ما لم يطلع عليه غيره فيه...وأي عمل يقوم به باحث في مجال القاضي أبي بكر ابن العربي عامة، وهذه الكتب التي أصدرها الدكتور التوراتي خاصة؛ لا يستقيم ولا يعتبر ما لم يطلع الباحث على هذه الأعمال التي قام بها الدكتور التوراتي، وهذه مسؤولية ملقاة على عاتق جامعاتنا ومعاهدنا العلمية؛ أن تنتبه للسرقات العلمية التي يمكن أن تسطو على هذه الجهود المهمة للأستاذ التوراتي، والتي هي نتاج بحث وكد وتعب، وعلاقات علمية نسجها وبناها لسنين...تستحق التكريم والاعتراف بها...

كما أنوه إلى أن دار الحديث الكتانية، أيضا، أصدرت ضمن مشروعها في إحياء علوم القاضي أبي بكر ابن العربي؛ كتابا آخر له؛ وهو: "الرسالة الحاكمة، في مسألة الأيمان اللازمة"، وهو عمل آخر يستحق التنويه والإشادة من محققه الباحث الأستاذ يونس بقيان، الذي عمل جهده وأتقن إصدار هذا الكتاب والدراسة له..ومازالت مجموعة في طريقها للظهور بإذنه تعالى..وفق الله الجميع، وأعاننا جميعا على خدمة تراث أعلام المغرب وأئمتهم في السابق واللاحق، ورفع ما يثار عن الكثير منهم من شبهات وجهالات...آمين..

ولا يسعني أخيرا إلا الإشادة بمجموعة من الأعلام الأئمة المتأخرين الذين يستحقون التخصص في تراثهم ونشره والتعريف به؛ لشموليته وأهميته؛ كمحمد بن الحسن الحجوي، ومحمد بن محمد الحجوجي، وأحمد بن الخضر العمراني، والطيب بن عبد المجيد ابن كيران، وأبي حفص عمر بن عبد الله الفاسي الفهري، ومحمد بن عبد السلام الفاسي الفهري، وعبد الرحمن بن محمد الفاسي الفهري، وعلي الحريشي، ومحمد بن قاسم جسوس، والدلائيين عامة، ومحمد بن أحمد ابن غازي العثماني، وأضرابهم من الأئمة في كل جيل..عدا علمائنا الكتانيين؛ كجعفر بن إدريس الكتاني، وابنيه محمد وأحمد، ومحمد بن عبد الكبير الكتاني وعبد الحي بن عبد الكبير الكتاني، ووالدهما عبد الكبير الكتاني، والطاهر بن الحسن الكتاني، ومحمد الباقر بن محمد الكتاني، ومحمد المنتصر بالله الكتاني...الخ، فكل واحد من هؤلاء مدرسة متكاملة تستحق البحث فيها والاختصاص...موسوعية، وشمولا، وخدمة للإسلام وقضاياه، وعفة للسان، واحتراما لأئمة السلف والخلف ومقدسات الإسلام...

وفقنا الله جميعا للخير وأعاننا عليه...والحمد لله رب العالمين...