jeudi 22 mars 2018

دراسة حديثية وإسنادية لكتاب سراج المريدين لابن العربي

 كتبها الدكتور عبد الله التوراتي

اعتنى ابنُ العربي في هذا «السراج» بالحديث الصحيح والحسن، وشَرَطَ على نفسه في أوَّل كتابه أنه لا يُورِدُ فيه إلَّا ما ثبت، وكان تعويلُه في ذلك على «الموطأ» و«الصحيحين»، وأمَّا الحسان فكان مصدره فيها هو «جامع الترمذي»، و«سنن أبي داود»، و«سنن النسائي»، وكانت من عادته إذا دَخَلَ في أبواب الزهد والفضائل أن يقبل أقوى ما ورد في الباب، ولو جاء من طريق مرسل، فالمراسيلُ عنده مقبولة معمول بها[1].
والحسن عنده على وجهين:
الأوَّل: ما سلم من الانقطاع أو نقص ضبط الراوي فيه.
الثاني: ما ورد من وجوه ضعيفة ولم يُطعن في عدالة رواته، ومعنى هذا أنه يعتبر في الحسان ما كان قابلًا منها للاعتضاد، حتى لو لم يكن ما يعضدها من طرق أخرى، وهو أوَّل الضعيف، وهو الذي يقبله الإمام أحمد في أبواب الفضائل والرغائب.
وما يَرِدُ في هذا الكتاب من الحديث بإسناده إليه فحُكْمُه حُكْمُ سَنَدِه، والتبعة فيه على رواته لا على ابن العربي، فشَرْطُه إنما هو متوجه لما يورده هو جازمًا به، غير ذاكر لإسناده، ومع ذلك فقد يذكر عَقِبَ الحديث ما يفيد حُكْمَه عليه.
وأَخَذَ على نفسه في جملة ما أخذ أن يُعْقِبَ الحديث بحُكْمِه عليه، بيانًا لصحته أو حُسْنِه، أو ضعفه أو بطلانه، وذلك كثيرٌ في الكتاب، حتى إنه يذكر عَقِبَ ما يُخَرِّجُه أو يورده من أحاديث «الموطأ» أو «الصحيحين» ما يُثَبِّتُ حُكْمَ الحديث الذي ساقه.
واعتنى الإمام الحافظ ابن العربي بالدلالة على ما جاء في الباب من الأحاديث، فتَتَبُّعُه لمتون الحديث وقراءته وروايته لكُتُبِ السنة والآثار مكَّنته من هذه المعرفة الاستقرائية، فيذكر لك ما وَرَدَ في الباب، ثم ينبهك على أضعفه وأفسده، أو يجمع لك الصحيح منه، أو يدلك على موضعه، وغير ذلك[2].
وهذا الطريق الذي سلكه ابن العربي طريق مخوف، لا يسلم الناسُ منه إلا بجُرَيْعَةِ الذقن، لأن الإحاطة بالسنة والروايات والطرق يكاد يكون مستحيلًا، وحتى الحَفَظَةُ النَّقَدَةُ من المتقدمين في إطلاقاتهم تلك كانوا لا يسلمون من التعقب والاستدراك.
وما أورده من كُتُبِ الزهد إنما انتقى منها، وعوَّل على أصحها، وهي: «الزهد» للإمام أحمد، ولابن المبارك، ولهنَّاد؛ لتَحَرِّيهِم الصدق فيما يوردون ويثبتون[3].
ونثر ابن العربي في هذا الكتاب الكثير من مسائل الحديث، كالرواية عن بني إسرائيل، وحكم معلَّقات البخاري، أو وقوع التصحيف في الرواية، وغير ذلك.
ومن المسائل المندرجة في الحديث تَفَنُّنُه في الرواية؛ في ذِكْرِه لمشيخته، ونسبتهم إلى نِسَبٍ مختلفة، وأوصاف متعددة، وقد مَرَّ ذِكْرُ بعضه في ذِكْرِنا لمشيخته.
ومن ذلك -أيضًا- أسانيده إلى الكُتُبِ، ويأتي ذِكْرُنا لها في فصل مصادر «السراج» وموارده، وفيها كثيرٌ من الأصول التي لا نعرف لها وجودًا أو ذِكْرًا في زماننا هذا.
وما أثبتناه من صلته بتلك الكُتُبِ وروايته لها يكشف لنا كثيرًا من مصادره التي عوَّل عليها في كتبه الأخرى، وما طواه هناك ذَكَرَهُ هنا.
ومن ذلك معرفته بطبقات الرواة، وذِكْرُه لمفاريدهم، ومعرفته بحديثهم، وروايتهم له، فسهل عليه أن يحصر الصحيح منه.
وكان من اصطلاحه تفرقته بين ما صحَّ من الحديث وبين ما ثبت ولم يصل إلى درجة الصحة، وقد غفل بعضهم عن هذا المسلك فخطَّأ القاضي ورام الاستدراك عليه، وليس الأمر كما ظَنُّوا.
من ذلك قوله: «وفي غيرهما أحاديث حسان لم تصح»[4].
وقال أيضًا: «ولستُ أعلم حديثًا صحيحًا ورد فيه لفظ الرجاء غير هذا»[5]، ثم قال: «وفي الأحاديث الحسان أخبار كثيرة جدًّا فيها ذكر الرجاء»[6].
وكان من اصطلاحه في هذا «السراج» أنَّ كل حديث لم يثبت عنده وصَحَّ عنده ضعفه نَسَبَه إلى الحكمة[7]، أو إلى أقوال السلف[8]، ولا ينسبه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، خصوصًا إذا كان قد صحَّ إدراجه في كُتُبِ الأمثال، أو كُتُبِ الآثار.
وبهذا كان هذا «السراج» حائزًا على مراتب، ومحتويًا على خصال، ومرتفعًا بخلال، فخَلَا من كثير من المناكير والأباطيل، وحَصَرَ ابنُ العربي الصحيح في أبوابه التي عقدها، ونبَّه العلماء إلى ما يغنيهم عن تقفرهم لما لا ينفعهم.
ولا أعلم كتابًا في فضائل الأعمال ورغائب الأحوال بلغ هذا المبلغ، وكفى الناس مؤنة النظر فيما يساق من أحاديث وآثار، ونحن نرى كُتُبَ الزهد والتصوف والمواعظ عامرة بالضعيف والمنكر والموضوع، حتى أنتج ذلك جملة من البدع والتعمقات التي أفسدت تدين الناس، وسلكت بهم مسالك لا يرضاها السلف الصالح من الصحابة والتابعين.


[1]  العارضة: (1/33).
[2]  ينظر: سراج المريدين: (1/319).
[3]  سراج المريدين: (1/283).
[4]  سراج المريدين: (2/278).
[5]  سراج المريدين: (3/126).
[6]  سراج المريدين: (3/126).
[7]  سراج المريدين: (3/431).
[8]  سراج المريدين: (3/371).

مقدمة برنامج السراج 

 صنعة الدكتور عبد الله التوراتي

الحمد لله رَبِّ العالمين، وبه أستعين، والصَّلاة والسَّلام على سيِّدنا محمَّد؛ قُدْوَةِ المُستبصِرين، وعَلَمِ المُشَمِّرِين، وسِرَاجِ السَّائرين إلى رَبِّ العالمين، وعلى صَحَابَتِه وقَرَابَتِه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدِّين.
وبعدُ:
ذكرتَ لنا -أعلى الله مقامك- تَهَمُّمَكَ بكُتُبِ الإمام أبي بكر بن العربي رضي الله عنه، ومِلْتَ بنا -وقاك الله المَلَل والزَّلَل- إلى ما قَرَعَ سمعك منها، واحتفلتَ في ذِكْرِها، وأنعمتَ في وصفها، وكل الذي ذكرتَ لنا ممَّا خبرناه وأدركناه، وأيقنَّاه وفاتشناه.
غير أنك كشفتَ لنا عن طويَّة، ودَللتنا على أمر بغير مثنويَّة، ونبَّهتنا -ومثلك من نحتفي بتنبيهه- إلى عُقُودٍ نَظَمَها في أيَّامه ولياليه؛ مبتغيًا فيها إمامُنا الحافظ الدلالة على معاقد العزم، ومقاصد الفهم، فلذلك أصغينا لحَدِيثك ونَجِيثِك، وأيمُ الله؛ لقد فَأَدْتَ فؤادنا، وأصبتَ ودادنا، وعَمَّ كلامُك شَعَرَنا وبشرنا، واعتمَّ نُطْقُك بجواهر قد علاها، وبفرائد قد روَّاها، والحديث ذو شجون.
وسألتنا -أيَّدك الله بأنواره- أن نُحصي لك تواليف القاضي الإمام، ممَّا لم تره أو تسمع به، ممَّا كان له وَقْعٌ في مجالس الدرس والعلم، ورجوتَ -لا خيَّب الله لك رجاءً- أن ندلك على ما تعقد عليه عزمك وعزيمتك، وأملك وطويَّتك.
وأنت في كل ذلك ترجو ما لا يرجوه غيرك، وتخطو ما لا يخطوه سواك، وقد علمنا مُكنتك ومُنَّتك، واقتدارك واعتذارك، فنظرنا في كل هذا الذي قصدتَ إليه، وعوَّلت عليه، فأذكرْتنا أيَّامًا خلتْ، وسنين ذهبتْ، يأتيك بعضُ خبرها في هذه العجالة.
ولكنَّنا لا نلج بك إلى تلك الأبواب، ولا نذهب بك إلى تلك المقاصد الكريمة حتى نحدثك حديثًا كنَّا قد ذكرنا بعضه في مجالس سبقتْ هذه المجالس، ولعلك تذكر ما رقمناه في فاتحة قولنا وناشئة حولنا[1]، وما أعقبه من توالي الحمد والمجد[2]، فلا نخلي مجلسنا هذا من ذِكْرِ بعض ذلك، لما نُعاين من تلك النغمة القَديمة، والنقمة التي أرادها البعضُ أن تكون دِيمة، ولعلك قد فطنتَ لما نرمي إليه، أو نلوي عليه، ومثلُك في قدْرك وشرفك ممن يفهم عنَّا ويُدرك إشارتنا وفحوانا، وتنبيهنا وشكوانا.
وخبرُ ذلك أن حَسَدَةَ القاضي وشانئيه في كل مكان، وعند كل زمان؛ وكأنهم من أصلاب من حَسَدَه أوَّلًا، ومَسَدَه أَزَلًا، في كل حقبة منهم بقيَّة، غير نقيَّة، نطفةٌ ألقاها ذلك الهالك في غَيِّه، المعتقَل في جِلْدِه، والمتسربِل في زَيْفِه، الضارب في جنونه، والهادر في مجونه.
وقد عاينتَ شكوى الإمام الحافظ من أولئك الذين قعدوا له في كل طريق، وعرَّجوا على أذيَّته، وجعلوه غرضًا، ما نقموا منه إلا عِلْمَه واتِّساعه فيه، وحِفْظَه واستبحاره، وتلك سيرتُهم التي ألقاها إليهم حَسَدُهم؛ كلما جاء عالم من المشرق دفعوا في صدره؛ سُنَّتُهم التي ساروا عليها؛ من أيَّام الحافظ الإمام أبي عبد الرحمن بَقِيِّ بن مَخْلَدٍ القرطبي، وكذلك كان أمرهم مع الإمام الحجَّة أبي الوليد الباجي، ثم مع إمام الأئمة وزين المِلَّةِ مولانا أبي بكر القاضي.
فإن لم تكن مرتضيًا مقالتنا، فنُذَكِّرُك بهجِّيرَى الإمام، وقد ملأ كتبه بالشَّكوى من أوابدهم، والصدع بفواقرهم؛ لما قاسى معهم من صُنُوفِ التهمة وشُكُولِها.
ولو أَخْلَى القاضي منهم كُتُبه لأخليناهم، ولو سكتَ عنهم لسكتنا عنهم، وأنت -أيها المريد- تعرفُ طريقتنا، وتُدرك سيرتنا، وتستيقن طويَّتنا، فإنَّا على طريقته عوَّلنا، وعلى أثره سِرْنَا، فافهم عنَّا ولا تعترضنَا.
وذكرتَ لنا أنَّ مَنْ قِبَلك من المتزهدة قد شُغِفُوا بكُتُبٍ ملأها أصحابُها بكل ضعيف لا يَحِل، وساقط يُخِل، وتَطويل يُمِل.
وقلتَ: إن بعض أولئك المُتَقَفِّرَة، وبعض أُولاك المُتَفَقِّرَة، قد راموا ما لا يكون، وأَشَفُّوا على أودية الجنون، وإنك رجوتَ من سؤالك لنا أن يكون لك في الجواب عنهم مقنع ودلالة.
قلنا: وكأنك تَذْكُرُ «سراج المريدين»؛ فذاك لَفْظُه، وتلك إشارته، أو لكأنك وقفتَ على من عنه نَقَلَ؟
ونعم؛ أي رجل أنت في تمهيدك وحُسن سياقتك، طوَّفت بنا لتبلغ هذا المبلغ، وتصعد إلى هذا المرتقى؛ وإن كان صعبًا، فمثلك ممَّن يُطِيقُه ولا يستصعبه.
وذلك أن الإمام الحافظ قد ذَكَرَ في تقدمته لكتاب «السراج» ما ذكرتَ عنه، في نَقْدِه لجِنْسِ المتزهدة والمتصوفة، وكان في ذِكْرِه ذاك قاصدًا إلى التمهيد لعِلْمِ التذكير، الذي سنح خاطرُ خير في التعريج عليه، والعطف إليه، وقَصَدَ إلى استصلاحه ممَّا لحقه من الآفات، ودخله من المُستفاآت، دالًّا الناس على معاقده ومقاصده، مع نَظْمِ الأسماء والصفات، وابتنائها على المقامات، وقد جَمَعَ شتاتها، ونَظَمَ أسلاكها؛ بعد أن كانت الطرائق فيها مشتركة، والمآخذ فيها مشتبكة.
ثم كان من حديثنا وحديث الزمان الدلالةُ على محاسن هذا «السراج»، والإشارة إلى مزاينه، والاحتفاء به عند خاصَّة أهل العلم والفهم، ممَّن راضوا طريقة الأحبار، وساروا سيْر الربَّانيِّين الأبرار.
ومن هذه المحاسن التي احتوى عليها حُسْنُ التأليف، وجودة النَّظْمِ، وبراعة الاستهلال، وحسن التخلص والانفصال، وإحكام صنعة الكلام، وإتقانُ معاقد التصنيف.
ومنها -كذلك- الانتقاءُ للأحاديث الصحاح والحِسان، والتأويل المصيب، والفَسْرُ الجلي، والتأويل القوي، والأمثال والحِكَم، والحكايات والأخبار.
وفيه من مفاوضة العلماء وملافظتهم، ومداخلتهم ومفاتشتهم.
وفيه من التحرير والتتبع والاستقصاء ما يشهد بعُلُوِّ كعب الإمام، واقتداره على مطاولة أئمة العلم.
وفيه -أيضًا- الشِّعْرُ المنتقى، وكلامُ أهل التُّقَى، ومجالس الصوفية والزهَّاد ببيت المقدس وبغداد والشَّام، ومجالس الذِّكْرِ والابتهال والتضرع بمكَّة المعظَّمة والمدينة المقدَّسة.
وفيه تراجمُ الأعيان، وأخبار أئمة الزمان، والتحقيق في مسائل الخلاف، والنكت والفوائد، وأخبار الرحلة، وكُتب ابن العربي، وكُتب مشيخته، وغيره من البدائع.
وهذا «السراج» من الدلائل على سَعَةِ حِفْظِ الإمام، فهو من إملائه، وفيه ما يدل على استقرائه وإحاطته بالسنة النبوية، ومعرفة الأبواب والتراجم، وفيه ما يدل على استبحاره، وأنه من أهل الاستقراء التام والإحصاء العام، والحفظ الوسيع المنقطع النظير، وفيه من دلائل نبوغه ومخايل شفوفه ما يقضي له بالتجِلَّة والتكرمة.
وكل هذا الذي تَلَوْنَاهُ عليك قد ذكرناه في تقدمتنا لهذا الكتاب العظيم، ومهَّدناه في فصول عديدة، ومباحث سديدة، ومسائل متكاثرة، وأقطاب متواترة، قصدنا فيها إلى الكشف عن معاقد النباهة والارتقاء، ومرابط النجابة والانتقاء.
وقد قام إخراجُنا لهذا «السراج» على أصول عَشْرٍ، انتقيناها وانتخبناها، ويمَّمنا من أجل تحصيلها شَطْرَ الخزائن العامَّة والخاصَّة؛ مفتشين ومُنَقِّبِين، وسائلين أهل الاختصاص، ممَّن لهم جولان في هذا الميدان، وممَّن عُرفوا بالمعرفة التامَّة في هذا العلم، فسألناهم وذاكرناهم، حتى وقعنا على مطلوبنا ومرغوبنا.
واختلفتْ تلك الكرائم العَشْرُ في نباهتها وجودتها، وعَتاقتها ووَثاقتها؛ أندلسيّها ومغربيّها، وشرقيّها وغربيّها، ومن هذه الأصول ما كان عليه خط الإمام الحافظ أبي بكر؛ بالقراءة والسماع، ومنه ما كان منتسخًا من أصول تلاميذه الأوفياء، ومنه ما كان من جملة كُتُبِ الخزانة السلطانية العلويَّة الشريفة، ومنه ما خطَّه أئمة العلم وحفَّاظ الإسلام، مع طُرَرِهم وتعليقاتهم؛ بالتصحيح والإشادة، وبذل الإجادة والإفادة.
واعتنينا في ضبطنا لنَصِّه وتحريرنا لحروفه وكَلِمِه على ما درجنا عليه في كُتُبِنا السَّوالف؛ من الاستيثاق والاستيقان، والتمهل والتروي، والقصد إلى مصنفات الإمام الحافظ، فبها كنا نستعين، وعليها كنا نعوِّل؛ خصوصًا عند إظلام النسخ.
وقد ضَمَّ هذا الكتاب حديثًا كثيرًا، قارب أن يبلغ ألفي حديث، ومثلها من الآثار عن الصحابة والتابعين، لهذا لم نُطِلْ في التخريج والعَزْوِ، وشَرَطْنا على أنفسنا أن نُنَبِّه على ما ضَعُفَ من الحديث، بأيسر عبارة وأوضحها، وقد نذكر أقوال النقاد في تلك الأحاديث، أو نُحِيل على موضعها وموردها.
ودَلَّ هذا الجَمْعُ العظيم من تلك الأحاديث على احتفاء الإمام ابن العربي بالآثار، وتعويله في تصنيف كتابه على سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم في التزكية والزهد، ثم على سيرة الصحابة -رضوان الله عليهم- من بعده، فتلك المعرفة هي التي سدَّدته، وتلك الصفة هي التي أيَّدته، فصَدَرَ كَلَامُه عن تحقيق، ولم يَحِدْ عن سواء الطريق.
وفي تخريجنا لتلك الأحاديث اعتنينا بالكُتُبِ التي يُسَمِّيها الإمامُ ابن العربي بمِعْصَمِ الإسلام وكَفِّه؛ الموطأ، والصحيحين، وسنن الترمذي والنسائي وأبي داود، وهي الكُتُبُ الستة التي عليها المعوَّل، وعلى أحاديثها مدار العلم والفقه والدِّين.
ثم صنعنا لهذا «السراج» برنامجًا، مُأْتَمِّينَ في ذلك بصنيع إمام زمانه في علوم العربية واللسان أبي فهر محمود محمَّد شاكر -يرحمه الله-، في تقدمته لكتابه «طبقات فُحُولِ الشعراء»، فسمَّيناها باسمه، ورسمناها برسمه، ووَسَمْناها بوَسْمِه.
وقد ذَكَرْنَا في هذا «البرنامج» زَمَنَ تأليف «السراج»، وموضوعه وفنَّه الألصق به، وبواعثَ إملائه، ثم عُجنا إلى ذِكْرِ مَزَايِنِه، وتعديد محاسنه، وهي كثيرة جِدًّا، حَزْرًا وعَدًّا، وفيه من أخبارِ ابن العربي في رحلته، وفي مقامه بين أهل بلدته، وما ناله منهم، وما رجاه من غيرهم، وفيه حديث طويل عن مشيخته السِّراجيَّة، ومجالسه الأَنْوَارِيَّة، مما لا يوجد في ديوان آخر.
وذكرنا من جملة فصول تقدمتنا نظامَ ترتيب «السراج» وأساس تقريبه، وهو فصل لم نُسبَق إليه، ولم نُزْحَمْ عليه، وفيه كَشَفْنَا عن نَمَطِ ترتيبه ومحجَّة تأليفه، وطريقة ابتناء الأسماء على المقامات، والمناسبة بين كل اسم واسم، مع الدلالة على أمثالها، والتنبيه إلى أشكالها.
ومن فصول هذا «البرنامج» مصادرُ الإمام ابن العربي في «سراجه»، وقد أَحصيناها إحصاءً، وذَكَرْنَا منها الجَمَّ الغفير، وأَطَلْنَا في ذلك؛ بيانًا لقَدْرِ هذا «السراج»، وفيه من كُتُبِ التفسير، ودواوين الحديث والآثار، وتصانيف التصوف والتزكية والمواعظ، وأَسْفَارِ التواريخ، والتوحيد، واللغة والغريب، والشعر؛ الكثير الكثير.
وألحقنا بهاته المصادر المجالسَ التي أفاد منها الإمام الحافظ -رضوانُ الله عليه-، وفيها الكثير من التحقيق، وكانت عادة الإمام تقييد ما يسمع في تلك المجالس في «أوراق المياومة»، وقد انتفع بها كثيرًا في تآليفه، وربما أحال عليها، أو أشار إليها.
وقد ذَكَرْنا -أيضًا- من أفاد من هذا «السراج» من جمهرة أهل العلم، وكان احتفالُنا بأعيانهم ومفاريدهم، فنَظَمْناهم على الطبقات، واجتلبنا من مصنفاتهم ما رقموه أو نقلوه، وذكرنا إجلالهم للكتاب، وتعويلهم على مسائله، وتنويههم بمباحثه، آية على ارتفاع «السراج»، وآية على اقتدار مُسْرِجِه.
ثم كان اعتناؤنا بتتبع حَمَلَةِ «السراج» ونَقَلَتِه، وكَتَبَتِه ونَسَخَتِه، ومُلَّاكِه، ومُحَشِّيه، ومختصريه، واللَّاهِجِينَ به، والذَّاكرين له، والمعتنين به، على رَسْمِ الاختصار، من غير إطالة أو إسهاب.
ولم نر أن نُخْلِي هذا «البرنامج» من فَصْلٍ ترجمناه باسم «نَقَدَةِ السراج»، ذَكَرْنَا فيه بعض ما انتُقد عليه، وهو نَزْرٌ قليل، وذَكَرْنَا بعض أوهام أهل العلم والفهم في نَقَدَاتهم، وغالبُها مبناه على عدم التنبه لاصطلاح ابن العربي في «سراجه».
ثم ألحقنا بجُمْلَةِ النَّقَدَةِ -وإن كان ليس منهم- الشيخ أحمد الغماري؛ فيما زعمه نَقْدًا على «سراج المريدين»، ونَقَلْنَا عنه فواقر ومفاقر، وكوائن وأَوافن، حمله على قَوْلِها والتفوه بها حِقْدُه القديم وحَسَدُه الدفين للإمام أبي بكر بن العربي -رضوان الله عليه-، وقد رماه بالعظائم، واجترأ عليه كعادته مع الأكابر، وقد أوردنا من تلك الدواهي كل ما وقفنا عليه في مجموعاته وأوضاعه ورسائله، وكثير منها من جملة المخطوط الذي أخفاه شيعتُه؛ لمَّا علموا شناعته وبشاعته، ومع إخفائهم له ظَلُّوا مُرَدِّدِينَ لما زعموه تحقيقًا، ومُثَرْثِرِينَ بما خالوه تدقيقًا، وليس هنالك إلا السِّباب والكِذاب.
وقد قَرَفَهُ بما لم يَقْرِفْهُ به أَحَدٌ من العالمين، فرماه بالنَّصْبِ وبُغْضِ آل البَيْتِ الأشراف، وهي شِنشنة قديمة، سار عليها الغماري بعد أن تلبَّس بدِينِ الروافض، واتَّخذ مقالاتهم شِعَارًا، وبِدَعَهم دِثَارًا، ولم يكن إمامنا أبو بكر الوحيد الذي قَذَفَه بهذه النَّزْعَةِ الباطليَّة، والنَّزْغَةِ الباطنيَّة، فقد رَمَى أئمة الإسلام العِظام بذلك، فقال في حق الإمام المبجَّل أحمد بن حنبل -رضوانُ الله عليه-: «يُعَدُّ نُوَيْصِبِيًّا»[3]، وقال في إمام الدنيا في الحديث أبي عبد الله البخاري -يرحمه الله-: «لا يخلو من رائحة نَصْبٍ»[4]، وكذلك قال في أبي الوليد الباجي وابن حزم الظاهري، وغيرهما.
فلم نَرَ -بعد جراءته وقِحَّتِه على أئمة الإسلام- أن نُخْلِيَ كتابنا هذا من نَقْدِه، وقد انكشف لنا -بعد تتبع ما رَقَمَه- أن الرجل مُدَلِّسٌ كبير، ومُفْتَرٍ خطير، وأنه لم يكن مُوَفَّقًا في جُلِّ ما اعترض به كلام الإمام الحافظ أبي بكر بن العربي -رضوان الله عليه-، وأنه لم يكن له من قَصْدٍ إلا ما سوَّلته له نفسه، ولم يكن له من غرض إلَّا الحط من مرتبة الإمام أبي بكر، وهو في كل ذلك يُسِرُّ حَسْوًا في ارتغاء، يحاول -عَبَثًا- أن يهزأ بإمام عظيم، شرَّقت تواليفه وغرَّبت، وصارت قُطْبَ رحى مجالس العلم والدرس والتفقه.
وسيرى القارئ الكريم والدارس الفَهِم التكفير الصريح للإمام الحافظ من قِبل هذا الغماري، وسيرى ما حَكَمَ به عليه من أحكام مُلِظَّاتٍ، وأخرى مضحكات، ولكنه ضَحِكٌ كالبُكَا؛ وليَزِنَ كل ذلك بميزان العلم والتُّقَى، ولينظر في أي باب يوضع هذا الرجل، ومعه تواليفه التي هي تَنايف مَتالف، محفوفة بحتوف ومخاوف.
ولم يكن لنا من غَرَضٍ إلا الذب عن هذا الحافظ الإمام، ولم يكن لنا من قصد إلا إحقاق الحق وإبطال الباطل، وإني لأرجو من عملي هذا أن يُنِيلني الله به المنزلة الأسمى والمرتبة الأسنى، وحسبي أن أكون في زُمْرَةِ الذابِّين والمنافحين عن أعراض الأئمة الأعلام.
 ثُمَّتَ صَنَعْنَا فهارس للكتاب زادت على العشرين، أفردناها في سِفْرٍ وسيع، وديوان حافل، يُعين على معرفة الكتاب لمن استطوله، ويُيسر للباحثين والدارسين الانتفاع به، وإن كانت الفهارس لا تغني عن المطالعة والمعاينة والقراءة، وقد تعبنا فيها غاية، وأنفقنا فيها عظيمًا من أوقاتنا؛ وعند الله الأجر الجزيل.
ولا بد من ذِكْرِ جَمْعٍ من أهل العلم كان لهم فَضْلٌ يُذكر ويُشكر، فبعونهم -بعد عون الله تعالى وتأييده- كان هذا الكتاب، فأَذْكُرُهم لما لهم من حَقٍّ عَلَيَّ، وهم:
الأستاذ العلَّامة المحقق الدكتور سيِّدي أحمد شوقي بِنْبِين؛ محافظ الخزانة السلطانية -صانها الله تعالى-، أشكره على جميل تعاونه، وعظيم تَيْسِيره، فله عليَّ أيادٍ بيضاء، وله مِنِّي خالص الوُدِّ، ورفيع التقدير، وجزاه الله عن التراث والعلم خير الجزاء.
الأستاذ البحَّاثة الأديب المقرئ سيِّدي محمد صالح المَتْنُوسِي؛ أخي وصاحبي، فقد نَهَدَ بتخريج أشعار «السراج»، وضَبَطَ أوزانها وبحورها، فكان نِعْمَ العون في تحقيق شِعْرِ الكتاب، ونِعْمَ السَّنَد في تَذْلِيلِ كثير من الصِّعَابِ، حفظه الله للعلم والعلماء، وجعله من أصفيائه وأحبَّائه.
الأستاذ البحَّاثة المحقق سيِّدي عبد العزيز السَّاوْرِي، خبير المخطوطات والوثائق بوزارة الثقافة، أشكره على فوائده الحِسان التي يُتحفني بها، وأشكره على تعاونه وتصاونه، وجزاه الله خير الجزاء على كل ما بذله في سبيل إخراج هذا «السراج».
الأستاذ البحَّاثة الشريف سيِّدي خالد السباعي؛ صاحب دار الحديث الكتَّانية، أشكره على ما يسَّره لي، ولا أنسى أفضاله عليَّ وعلى تراث الإمام ابن العربي، جزاه الله خير الجزاء، ونفع به في هذا البلد الأمين.
 «وأنا أَحْمَدُ الله على ما يسَّر من ذلك، مع توارُد الموانع، وازدحام القواطع، وتضافُر الصَّادف والمانع، وكثرة الضار وقلة النافع، وأعوذ بالله من أن أَدْعُوَ إليه وأَفِرَّ عنه، وأُذَكِّرَ به وأنساه، ويرزقني وأعبد سواه، وأسأله المعافاة مما يضطر إلى تقصير في حقه، والعصمة من أن يجعلني عِبْرَةً لخَلْقِه، وأن يُوزِعَني الشكر على ما كفاني وآواني، ولا يجعل أحدًا أسعد منِّي بما آتاني، وأَمُدُّ إليه يَدَ الرغبة -عَنِّي وعنكم- في بَذْلِ غُفرانه، وإحلال رِضوانه، وآخِرُ دعوانا أن الحمد لله رَبِّ العالمين، والسَّلَامُ عليكم ورحمةُ الله وبركاتُه»[5].
                                    وكتبه الدكتور عبد الله بن عبد السَّلام التَّوْرَاتِي
                                       في شهر ربيع النَّبَوِي من عام 1438هـ
                                               بتطَّاون -حماها الله تعالى-
                                            قاعدة العلم بشمال المغرب الأقصى


[1]  الإشارة هنا إلى تقدمتنا لكتاب «الأمد الأقصى في شرح أسماء الله الحسنى» لأبي بكر بن العربي.
[2]  الإشارة هنا إلى تقدمتنا لكتاب «المتوسط في الاعتقاد» لأبي بكر بن العربي.
[3]  ذَكَرَ ذلك في رسالة له إلى أَحَدِ مُرِيدِيه، وعندي مصوَّرة لها عن الأصل الذي بخطه.
[4]  المداوي: (1/392).
[5]  خاتمة سراج المريدين: (4/455).