jeudi 22 mars 2018

دراسة حديثية وإسنادية لكتاب سراج المريدين لابن العربي

 كتبها الدكتور عبد الله التوراتي

اعتنى ابنُ العربي في هذا «السراج» بالحديث الصحيح والحسن، وشَرَطَ على نفسه في أوَّل كتابه أنه لا يُورِدُ فيه إلَّا ما ثبت، وكان تعويلُه في ذلك على «الموطأ» و«الصحيحين»، وأمَّا الحسان فكان مصدره فيها هو «جامع الترمذي»، و«سنن أبي داود»، و«سنن النسائي»، وكانت من عادته إذا دَخَلَ في أبواب الزهد والفضائل أن يقبل أقوى ما ورد في الباب، ولو جاء من طريق مرسل، فالمراسيلُ عنده مقبولة معمول بها[1].
والحسن عنده على وجهين:
الأوَّل: ما سلم من الانقطاع أو نقص ضبط الراوي فيه.
الثاني: ما ورد من وجوه ضعيفة ولم يُطعن في عدالة رواته، ومعنى هذا أنه يعتبر في الحسان ما كان قابلًا منها للاعتضاد، حتى لو لم يكن ما يعضدها من طرق أخرى، وهو أوَّل الضعيف، وهو الذي يقبله الإمام أحمد في أبواب الفضائل والرغائب.
وما يَرِدُ في هذا الكتاب من الحديث بإسناده إليه فحُكْمُه حُكْمُ سَنَدِه، والتبعة فيه على رواته لا على ابن العربي، فشَرْطُه إنما هو متوجه لما يورده هو جازمًا به، غير ذاكر لإسناده، ومع ذلك فقد يذكر عَقِبَ الحديث ما يفيد حُكْمَه عليه.
وأَخَذَ على نفسه في جملة ما أخذ أن يُعْقِبَ الحديث بحُكْمِه عليه، بيانًا لصحته أو حُسْنِه، أو ضعفه أو بطلانه، وذلك كثيرٌ في الكتاب، حتى إنه يذكر عَقِبَ ما يُخَرِّجُه أو يورده من أحاديث «الموطأ» أو «الصحيحين» ما يُثَبِّتُ حُكْمَ الحديث الذي ساقه.
واعتنى الإمام الحافظ ابن العربي بالدلالة على ما جاء في الباب من الأحاديث، فتَتَبُّعُه لمتون الحديث وقراءته وروايته لكُتُبِ السنة والآثار مكَّنته من هذه المعرفة الاستقرائية، فيذكر لك ما وَرَدَ في الباب، ثم ينبهك على أضعفه وأفسده، أو يجمع لك الصحيح منه، أو يدلك على موضعه، وغير ذلك[2].
وهذا الطريق الذي سلكه ابن العربي طريق مخوف، لا يسلم الناسُ منه إلا بجُرَيْعَةِ الذقن، لأن الإحاطة بالسنة والروايات والطرق يكاد يكون مستحيلًا، وحتى الحَفَظَةُ النَّقَدَةُ من المتقدمين في إطلاقاتهم تلك كانوا لا يسلمون من التعقب والاستدراك.
وما أورده من كُتُبِ الزهد إنما انتقى منها، وعوَّل على أصحها، وهي: «الزهد» للإمام أحمد، ولابن المبارك، ولهنَّاد؛ لتَحَرِّيهِم الصدق فيما يوردون ويثبتون[3].
ونثر ابن العربي في هذا الكتاب الكثير من مسائل الحديث، كالرواية عن بني إسرائيل، وحكم معلَّقات البخاري، أو وقوع التصحيف في الرواية، وغير ذلك.
ومن المسائل المندرجة في الحديث تَفَنُّنُه في الرواية؛ في ذِكْرِه لمشيخته، ونسبتهم إلى نِسَبٍ مختلفة، وأوصاف متعددة، وقد مَرَّ ذِكْرُ بعضه في ذِكْرِنا لمشيخته.
ومن ذلك -أيضًا- أسانيده إلى الكُتُبِ، ويأتي ذِكْرُنا لها في فصل مصادر «السراج» وموارده، وفيها كثيرٌ من الأصول التي لا نعرف لها وجودًا أو ذِكْرًا في زماننا هذا.
وما أثبتناه من صلته بتلك الكُتُبِ وروايته لها يكشف لنا كثيرًا من مصادره التي عوَّل عليها في كتبه الأخرى، وما طواه هناك ذَكَرَهُ هنا.
ومن ذلك معرفته بطبقات الرواة، وذِكْرُه لمفاريدهم، ومعرفته بحديثهم، وروايتهم له، فسهل عليه أن يحصر الصحيح منه.
وكان من اصطلاحه تفرقته بين ما صحَّ من الحديث وبين ما ثبت ولم يصل إلى درجة الصحة، وقد غفل بعضهم عن هذا المسلك فخطَّأ القاضي ورام الاستدراك عليه، وليس الأمر كما ظَنُّوا.
من ذلك قوله: «وفي غيرهما أحاديث حسان لم تصح»[4].
وقال أيضًا: «ولستُ أعلم حديثًا صحيحًا ورد فيه لفظ الرجاء غير هذا»[5]، ثم قال: «وفي الأحاديث الحسان أخبار كثيرة جدًّا فيها ذكر الرجاء»[6].
وكان من اصطلاحه في هذا «السراج» أنَّ كل حديث لم يثبت عنده وصَحَّ عنده ضعفه نَسَبَه إلى الحكمة[7]، أو إلى أقوال السلف[8]، ولا ينسبه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، خصوصًا إذا كان قد صحَّ إدراجه في كُتُبِ الأمثال، أو كُتُبِ الآثار.
وبهذا كان هذا «السراج» حائزًا على مراتب، ومحتويًا على خصال، ومرتفعًا بخلال، فخَلَا من كثير من المناكير والأباطيل، وحَصَرَ ابنُ العربي الصحيح في أبوابه التي عقدها، ونبَّه العلماء إلى ما يغنيهم عن تقفرهم لما لا ينفعهم.
ولا أعلم كتابًا في فضائل الأعمال ورغائب الأحوال بلغ هذا المبلغ، وكفى الناس مؤنة النظر فيما يساق من أحاديث وآثار، ونحن نرى كُتُبَ الزهد والتصوف والمواعظ عامرة بالضعيف والمنكر والموضوع، حتى أنتج ذلك جملة من البدع والتعمقات التي أفسدت تدين الناس، وسلكت بهم مسالك لا يرضاها السلف الصالح من الصحابة والتابعين.


[1]  العارضة: (1/33).
[2]  ينظر: سراج المريدين: (1/319).
[3]  سراج المريدين: (1/283).
[4]  سراج المريدين: (2/278).
[5]  سراج المريدين: (3/126).
[6]  سراج المريدين: (3/126).
[7]  سراج المريدين: (3/431).
[8]  سراج المريدين: (3/371).